الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قولهم: إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس ـ الذي ذكروا صورته ومادته، قضية سلبية، ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا عليها دليلًا أصلًا. وصاروا مدعين ما لم يثبتوه قائلين بغير علم؛ إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم، فمن أين لهم أنه لا يمكن أحدًا من بني آدم أن يعلم شيئًا من التصديقات التي ليست بديهة عندهم إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟!
/ثم هم معترفون بما لابد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري، وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي، وحينئذ فيأتي ما تقدم في التصورات من أن الفرق بينهما إنما هو بالنسبة والإضافة، فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غيره. والبديهي من التصديقات، ما يكفي تصور طرفيه ـ موضوعه ومحموله ـ في حصول تصديقه، فلا يتوقف على وسط يكون بينهما، وهو الدليل ـ الذي هو الحد الأوسط ـ سواء كان تصور الطرفين بديهيا أم لا، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان.
فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة، وحينئذ فيتصور الطرفين تصورًا تامًا بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض أمر بين، فإن كثيرًا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال؛ ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالًا.
/وقد ذكر المناطقة أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحواس يختص بها من علمها، ولا تكون حجة على غيره، بخلاف غيرها، فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع، وهذا تفريق فاسد، وهو أصل من أصول الإلحاد والكفر. فإن المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها. يقول أحد هؤلاء بناء على هذا الفرق : هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة على، وليس ذلك بشرط، ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث من الآثار النبوية؛ فإن هؤلاء يقولون: إنها غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار : إن معجزات الأنبياء غير معلومة له؛ وهذا لكونهم لم يعلموا السبب الموجب للعلم بذلك، والحجة قائمة عليهم تواتر عندهم أم لا.
وقد ذهب الفلاسفة أهل المنطق إلى جهالات قولهم: إن الملائكة هي العقول العشرة، وإنها قديمة أزلية، وإن العقل رب ما سواه، وهذا شيء لم يقل مثله أحد من اليهود والنصارى ومشركي العرب،ولم يقل أحد: إن ملكا من الملائكة رب العالم كله، ويقولون: إن العقل الفعال مبدع كل ما تحت فلك القمر، وهذا ـ أيضًا ـ كفر لم يصل إليه أحد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب، ويقولون: إن الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته، وليس عالمًا بالجزئيات، ولا يقدر أن يغير العالم، بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه، / وأنه إذا توجه المستشفع إلى من يعظمه من الجواهر العالية؛ كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر، فإنه يتصل بذلك المعظم المستشفع به، فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا من جهة شفيعه، ويمثلونه بالشمس إذا طلعت على مرآة، فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع، فذلك الشعاع حصل له من مقابلة المرآة وحصل للمرآة بمقابلة الشمس.
ويقولون: إن الملائكة هي العقول العشرة، أو القوى الصالحة في النفس، وإن الشياطين هي القوى الخبيثة، وغير ذلك مما عرف فساده بالدلائل العقلية، بل بالضرورة من دين الرسول. فإذا كان شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم، فأي كمال للنفس في هذه الجهالات؟!. وهذا وأمثاله مفتقر إلى بسط كثير. والمقصود ذكر ما ادعوا في البرهان المنطقي.
وأيضًا، فإذا قالوا: إن العلوم لا تحصل إلا بالبرهان الذي هو عندهم قياس شمولي، وعندهم لابد فيه من قضية كلية موجبة؛ ولهذا قالوا : إنه لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شيء من أنواع القياس، لا بحسب صورته - كالحملى والشرطي المتصل والمنفصل- ولا بحسب مادته لا البرهاني ولا الخطابي ولا الجدلي، بل ولا الشعري.
/فيقال: إذا كان لابد في كل ما يسمونه برهانًا من قضية كلية، فلابد من العلم بتلك القضية الكلية: أي من العلم بكونها كلية، وإلا فمتى جوز عليها ألا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها. والمهملة والمطلقة التي يحتمل لفظها أن تكون كلية، وجزئية في قوة الجزئية، وإذا كان لابد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم بقضية كلية موجبة، فيقال: العلم بتلك القضية إن كان بديهيا، أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيًا بطريق الأولى، وإن كان نظريًا احتاج إلى علم بديهي، فيفضي إلى الدور المعي أو التسلسل في المتواترات وكلاهما باطل.
وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان،ويسمونها "الواجب قبولها" سواء كانت حسية ظاهرة أو باطنة وهي التي يحسها بنفسه أو كانت من التجريبيات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من النفسيات الواجب قبولها، مثل العلم بكون نور القمر مستفادًا من الشمس إذا رأى اختلاف أشكاله عند اختلاف محاذاته للشمس كما يختلف إذا قاربها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال، وإذا كان ليلة الاستقبال عند الإبدار .
وهم متنازعون: هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا؟ ومثل العقليات المحضة، ومثل قولنا: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء،/ والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، والضدان لا يجتمعان، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، فما من قضية من هذه القضايا الكلية تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان، بل هو الواقع كثيرًا. فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهم واحد، فإنه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين، وهلم جرا في سائر القضايا الأخر من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية، وكذلك كل جزء يعلم أن هذا الكل أعظم من جزئه بدون توسط القضية الكلية، وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان. وكل أحد يعلم أن هذا العين لا يكون موجودا معدومًا كما يعلم المعين الآخر، ولا يحتاج ذلك إلى أن يستدل عليه بأن كل شيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا، وكذلك الضدان فإن الإنسان يعلم أن هذا الشيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا كما يعلم أن الآخر كذلك، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى قضية كلية بأن كل شيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا.
وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فإن علم تضاد المعينين علم أنهما لا يجتمعان، فإن العلم بالقضية الكلية يفيد العلم بالمقدمة الكبرى المشتملة على الحد الأكبر، وذلك لا يغني دون العلم بالمقدمة الصغرى المشتملة على الحد الأصغر، والعلم بالنتيجة وهو أن هذين المعنيين ضدان فلا يجتمعان، يمكن بدون العلم / بالمقدمة الكبرى، وهو أن كل ضدين لا يجتمعان. فلا يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان، وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما سموه هم البرهان، وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل عليه القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه.
مثال ذلك: أنه إذا أريد إبطال قول من يثبت الأحوال ويقول: إنها لا موجودة ولا معدومة، فقيل: هذان نقيضان، وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن هذا جعل للواحد لا موجودًا ولا معدومًا ولا يمكن جعل الحال للواحد لا موجودة ولا معدومة، كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودًا معدومًا ممكنا بدون هذه القضية الكلية، فلا يفتقر العلم بالنتيجة إلى البرهان.
وكذلك إذا قيل: إن هذا ممكن وكل ممكن فلابد له من مرجح لوجوده على عدمه على أصح القولين، أو لأحد طرفيه على قول طائفة من الناس.
أو قيل: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، فتلك القضية الكلية، وهي قولنا: كل محدث لابد له من محدث، وكل ممكن لابد له من مرجح، يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم / بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها، فيعلم أن هذا المحدث لابد له من محدث. وهذا الممكن لابد له من مرجح، فإن شك عقله وجوز أن يحدث هو بلا محدث أحدثه، أو أن يكون وهو ممكن ـ يقبل الوجود والعدم ـ بدون مرجح يرجح وجوده، جوز ذلك في غيره من المحدثات، والممكنات بطريق الأولى؛ وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه بالنتيجة المعينة ـ وهو قولنا: وهذا محدث فله محدث، أو هذا ممكن فله مرجح ـ إلى القياس البرهاني.
ومما يوضح هذا: أنك لا تجد أحدًا من بني آدم يريد أن يعلم مطلوبًا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته، إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي، ولهذا لا تجد أحدًا من سائر أصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء، بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول، ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة، وقد يكون مقدمتين، وقد يكون ثلاث مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل؛ إذ حاجة الناس تختلف. وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل. وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال: إنه لابد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما، ولا يحتاج إلى أكثر منهما، وهذا ينبغي أن تأخذه مـن المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الأنبياء؛ فإنه يظهر بها فساد منطقهم. وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بنصوص الأنبياء فإنه يظهر الاحتياج إلى القضية الكلية، كما إذا أردنا تحريم / النبيذ المتنازع فيه فقلنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، أو قلنا: هو خمر، وكل خمر حرام. فقولنا: النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) وقولنا : كل خمر حرام، يعلم بالنص والإجماع، وليس في ذلك نزاع، وإنما النزاع في المقدمة الصغرى. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام). وفي لفظ : (كل مسكر خمر وكل خمر حرام).
وقد يظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة بالمقدمتين كما يفعله المنطقيون، وهذا جهل عظيم ممن يظنه فإنه صلى الله عليه وسلم أجل قدرًا من أن يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم، بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء أمته لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين، بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون إلا الصناعات كالحساب والطب، ونحو ذلك.
وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الإلهية فلم يكونوا من رجالها. وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم، وبسطوا الكلام عليهم؛ وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون، فلا يحتاجون إلى معرفة ذلك بالقياس، وإنما شك بعضهم في أنواع من الأشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري / أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عندنا شراب مصنوع من العسل يقال له: البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له: المزر، قال: وكان أوتي جوامع الكلم ـ فقال: (كل مسكر حرام) فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم. وبين ـ أيضًا ـ أن كل ما يسكر فهو خمر، وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر؛ إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر يتوقف على العلم بهما جميعًا، فإن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (كل مسكر حرام) وهو من المؤمنين به علم أن النبيذ المسكر حرام، ولكن قد يحصل الشك: هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر، وهذا شك في مدلول قوله، فإذا علم مراده صلى الله عليه وسلم علم المطلوب.
وكذلك إذا علم أن النبيذ خمر. والعلم بهذا أوكد في التحريم؛ فإن من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرًا، فإذا علم بالنص أن (كل مسكر خمر)، كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الإيمان الذين يعلمون أن الخمر محرم. وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول، فهذا لا يستدل بنصه، وإن علم أن محمدًا رسول الله، ولكن لم يعلم أنه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله: (كل مسكر خمر) بل ينفعه قوله: (كل مسكر حرام) وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر؛ لأن الخمر والمسكر اسمان لمسمى واحد عند / الشارع، وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر.
وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية، بل التنبيه على التمثيل؛ فإن هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين، والمنطقيون يمثلون بصورة مجردة عن المواد لا تدل على شيء معين، لئلا يستفاد العلم بالمثال من صورة معينة كما يقولون: كل أ: ب، وكل ب : ج. فكل أ: ج، ولكن المقصود هو العلم المقصود من المواد المعينة، فإذا جردت يظن الظان أن هذا يحتاج إليه في المعينات، وليس الأمر كذلك، بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم فيها بالمعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفًا على البرهان.
فالقضايا النبوية لا تحتاج إلى القياس العقلي الذي سموه برهانا، وما يستفاد بالعقل من العلوم ـ أيضًا ـ لا يحتاج إلى قياسهم البرهاني، فلا يحتاج إليه لا في السمعيات ولا في العقليات، فامتنع أن يقال: لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه.
ومما يوضح ذلك: أن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية، فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار، لم ندرك أن كل نار محرقة، فإذا جعلنا هذه قضية كلية، وقلنا: كل نار محرقة، لم يكن لنا طريق / نعلم به صدق هذه القضية الكلية علمًا يقينيًا، إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى.
وإن قيل: ليس المراد العلم بالأمور المعينة؛ فإن البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية، فالنتائج المعلومة بالبرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك. والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان.
قيل: فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشيء موجود، بل بأمور مقدرة في الأذهان لا يعلم تحققها في الأعيان، وإذا لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدًا، بل عديم المنفعة. وهم لا يقولون بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجية والإلهية ،ولكن حقيقة الأمر ـ كما بيناه في غير هذا الموضع ـ أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة، بل الأكثرية فلا تفيد مقصود البرهان.
وأما الإلهيات، فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان؛ ولهذا حدثونا بإسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب [كشف أسرار المنطق] و [الموجز] وغيرهما أنه قال عند الموت: أموت وما عرفت / شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر. ثم قال: الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئًا. وكذلك حدثونا عن آخر من أفاضلهم. وهذا أمر يعرفه كل من خبرهم، ويعرف أنهم أجهل أهل الأرض بالطرق التي تنال بها العلوم العقلية والسمعية، إلا من علم منهم علمًا من غير الطرق المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة، لا من جهتهم، مع كثرة تعبهم في البرهان الذي يزعمون أنهم يزنون به العلوم، ومن عرف منهم شيئًا من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق .
ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم من قضية كلية، أن العلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد، وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة، فالنار الغائبة محرقة؛ لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بالقياس التمثيلي وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن، فإذا كانوا إنما علموا القضية الكلية بقياس التمثيل، رجعوا في اليقين إلى ما يقولون: إنه لا يفيد إلا الظن. وإن قالوا: بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم كلي من واهب العقل- أو تسعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلي من واهب العقل - أو قالوا: من العقل الفعال - عندهم- أو نحو ذلك، قيل لهم: الكلام فيها به يعلم أن الحكم الكلي الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل.
/فإن قالوا: هذا العلم بالبديهة أو الضرورة، كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة، وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم. وهذا إن كان حقًا، فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل ـ أيضًا ـ في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع، فإن جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات، أعظم من جزمهم بالكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس، والعلم بالجزئيات أسبق إلى الفطرة، فجزم الفطرة بها أقوى. ثم كلما قوى العقل، اتسعت الكليات وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إن العلم بالأشخاص موقوف على العلم بالأنواع والأجناس، ولا أن العلم بالأنواع موقوف على العلم بالأجناس، بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك، ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك، فلم يبق علمه بأن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفًا على البرهان، وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان، فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد، أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركًا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية.
وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن، وقياسهم هو الذي يفيد اليقين، وقد بينا ـ في غير هذا الموضع ـ أن قولهم هذا من أفسد الأقوال، وأن / قياس التمثيل وقياس الشمول سواء، وإنما يختلفان بالمادة المعينة فإن كانت يقينية في أحدهما، كانت يقينية في الآخر، وإن كانت ظنية في أحدهما ،كانت ظنية في الآخر؛ وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة، الأصغر والأوسط والأكبر، والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطًا وجامعًا.
فإذا قال في مسألة النبيذ: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلابد له من إثبات المقدمة الكبرى، وحينئذ يتم البرهان، وحينئذ فيمكنه أن يقول: النبيذ مسكر فيكون حرامًا قياسًا على خمر العنب بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار، فإن الإسكار هو مناط التحريم في الأصل، وهو موجود في الفرع فبما به يقرر أن كل مسكر حرام، به يقرر أن السـكـر مناط التحـريم بطريق الأولى، بل التفريق في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم، فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات، ولا يكفي في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزأين لثبوته في الجزء الآخر، لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم، كما يظنه بعض الغالطين، بل لابد أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم، والمشترك بينهما هو الحد الأوسط.وهذا يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم، وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبًا / في تقدير صحة القياس، فإن المعترض قد يمنع الوصف في الأصل، وقد يمنع الحكم في الأصل، وقد يمنع الوصف في الفرع، وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم، ويقول: لا نسلم أن ما ذكرته في الوصف المشترك هو العلة أو دليل العلة، فلابد من دليل يدل على ذلك: من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك، فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم للحكم إما علة وإما دليل العلة هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم للأكبر، وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى، فإن أثبت العلة كان برهان علة، وإن أثبت دليلها كان برهان دلالة، وإن لم يفد العلم بل أفاد الظن، فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية، وهذا أمر بين، ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولي كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلي وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر.
ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأى كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم: من أن العقليات ليس فيها قياس، وإنما القياس في الشرعيات، ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقًا، فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين، بل وسائر العقلاء، فإن القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات، فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم، كان هذا / دليلا في جميع العلوم، وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر، كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي.
وأبو المعالي ومن قبله من النظار لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها، بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها، غير أن المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزمًا للحكم، كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل.ومنازعهم يقول: لم يثبت الحكم في الغائب لأجل ثبوته في الشاهد، بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج إلى التمثيل، فيقال لهم: وهكذا في الشرعيات، فإنه متى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل، بل نفس الدليل الدال على أن الحكم يتعلق بالوصف كاف، لكن لما كان هذا كليًا، والكلى لا يوجد إلا معينًا، كان تعيين الأصل مما يعلم به تحقق هذا الكلي، وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات، فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح، ودليل صحيح، في أي شيء كان.
ولهذا كان الدليل أخص من مدلوله الذي هو الحكم فإنه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم، واللازم لا يكون أخص من ملزومه، بل أعم منه أو مساويه، وهو المعنى بكونه أعم.
/والمدلول الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع إما أخص من الدليل أو مساويه، فيطلق عليه القول بأنه أخص منه لا يكون أعم من الدليل؛ إذ لو كان أعم منه، لم يكن الدليل لازمًا له، فلا يعلم ثبوت الحكم له، فلا يكون الدليل دليلا، وإنما يكون إذا كان لازمًا للمحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع، والمبتدأ مستلزمًا للحكم الذي هو صفة وخبر وحكم، وهو الذي يسمى المحمول والخبر، وهذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه، وأخص من التحريم، وقد يكون الدليل مساويًا في العموم والخصوص للحكم لازمًا للمحكوم عليه. فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك.
وهذا أمر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان. ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل بالأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم، وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم، وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم. فالعلم بذلك الملزوم لابد أن يكون بينًا بنفسه أو بدليل آخر.
ومن ظلم هؤلاء وجهلهم أنهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل: السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسًا على الإنسان. ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به، فإنه لو قيل: السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث، لورد عليه هذه الأسئلة وزيادة، ولكن إذا أخذ قياس الشمول في مادة بينة، لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل، فإن الكلي هو مثال في الذهن لجزئياته؛ ولهذا كان مطابقًا موافقًا له بل قد يكون التمثيل أبين. ولهذا كان العقلاء يقيسون به وكذلك قولهم في الحد : إنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي يحصل به التمييز بين المحدود وغيره، بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردًا وعكسًا ـ بحيث يوجد حيث وجد وينتفي حيث انتفى ـ فإن الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردًا وعكسا ،فكلما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره. وهذا هو الحد عند جماهير النظار، ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد. فإذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز، فأرى رغيفًا وقيل له هذا، فقد يفهم أن هذا لفظ يوجد / فيه كل ما هو خبز، سواء كان على صورة الرغيف أو غير صورته.
وقد بسط الكلام على ما ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك وجد هذا في الأمثلة المجردة؛ إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الأوسط هو الباء، فقيل: كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل ألف جيم. وإذا قيل: كل ألف جيم قياسا على الدال؛ لأن الدال هي جيم وإنما كانت جيمًا؛ لأنها باء والألف أيضا باء، فيكون الألف جيمًا لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء، كان هذا صحيحًا في معنى الأول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الألف، مع أن الحد الأوسط وهو الباء موجود فيها.
فإن قيل: ما ذكرتموه من كون البرهان لابد فيه من قضية كلية صحيح؛ ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبًا كليًا.
ويقولون: البرهان لا يفيد إلا الكليات، ثم أشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل، وهي التي تكمل بها النفس فتصير عالما معقولا موازيًا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير.
وإذا كان المطلـوب به هـو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير،/ فتلك إنما تحصل بالقضايا العقلية الواجب قبولها، بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب، كما يقال: كل إنسان حيوان، وكل موجود فإما واجب وإما ممكن، ونحو ذلك من الكلية التي لا تقبل التغيير.
فالأول: هو الصورة. والثاني: هو المادة. وهو الهيولى ومعناه في لغتهم المحل. والثالث : هو النفس. والرابع : هو العقل.
والأول يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر، ولكن طائفة من متأخريهم ــ كابن سينا ــ امتنعوا من تسميته جوهرًا، وقالوا: الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع، أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه، وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته، والأول ليس كذلك، فلا يكون جوهرًا. وهذا مما / خالفوا فيه سلفهم، ونازعوهم فيه نزاعًا لفظيًا، ولم يأتوا بفرق صحيح معقول، فإن تخصيص اسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي، وأولئك يقولون: بل هو كل ما ليس في موضوع، كما يقول المتكلمون: كل ما هو قائم بنفسه، أو كل ما هو متحيز، أو كل ما قامت به الصفات، أو كل ما حمل الأعراض ونحو ذلك.
وأما الفرق المعنوي، فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل، ودعواهم أن الأول وجود مقيد بالسلوب ـ أيضا ـ باطل، كما هو مبسوط في موضعه، والمقصود هنا الكلام على البرهان.
فيقال: هذا الكلام، وإن ضل به طوائف، فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه، لكن ننبه هنا على بعض ما فيه، وذلك من وجوه:
الأول: أن يقال: إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات، والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا موجود معين، لم يعلم بالبرهان شيء من المعينات، فلا يعلم به موجود أصلا، بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان. ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط، وإن كانت هذه قضية كاذبة، كما بسط في موضعه، فليس هذا علمًا تكمل به النفس؛ إذ لم تعلم شيئًا من / الموجودات، ولا صارت عالما معقولًا موازيًا للعالم الموجود، بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود، وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا.
والثاني: أن يقال: أشرف الموجودات هو [واجب الوجود]، ووجوده معين لا كلي؛ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، بل إنما علم أمر كلي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود، وكذلك [الجواهر العقلية] عندهم، وهي العقول العشرة، أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم، كالسهروردي المقتول، وأبي البركات وغيرهما. كلها جواهر معينة، لا أمور كلية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم نعلم شيئًا منها، وكذلك الأفلاك التي يقولون: إنها أزلية أبدية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم تكن معلومة، فلا نعلم واجب الوجود ولا العقول، ولا شيئًا من النفوس ولا الأفلاك ولا العناصر ولا المولدات، وهذه جملة الموجودات عندهم، فأي علم هنا تكمل به النفس؟
الثالث: أن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي، وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي. والإلهي أشرف من الرياضي، هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج، ومبدأ / حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا ـ ولو تصور كل ما في إقليدس ـ أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج، وليس ذلك كمال النفس، ولولا أن ذلك طلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجة التي هي أجسام وأعراض لما جعل علمًا، وإنما جعلوا علم الهندسة مبدأ تعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة، أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا، هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية.
فإن علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكم المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة، مثل جمع الأعداد وقسمتها وضربها ونسبة بعضها إلى بعض، فإنك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنهما مائتان. فإذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة وإذا ضربتها في عشرة، كان المرتفع مائة، والضرب مقابل للقسمة، فإن ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، فإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد العددين خرج المضروب الآخر.وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم،فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب،فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه، والنسبة / تجمع هذه كلها، فنسبة أحد المضروبين إلى المرتفع كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، ونسبة المرتفع إلى أحد المضروبين نسبة الآخر إلى الواحد.
فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول، وما من أحد من الناس إلا يعرف منه شيئًا فإنه ضروري في العلم، ولهذا يمثلون به في قولهم: الواحد نصف الاثنين، ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة.
وهذا كان مبدأ فلسفتهم التي وضعها [فيثاغورس] وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد، وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارجة عن الذهن، ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك، وظنوا أن الماهيات المجردة كالإنسان والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية، ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك، فقالوا: بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص، ومشى من مشى من أتباع أرسطو من المتأخرين على هذا، وهو ـ أيضًا ـ غلط. فإن ما في الخارج ليس بكلي أصلا، وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص. وإذا قيل: الكلي الطبيعي في الخارج، فمعناه إنما هو كلي في الذهن يوجد في الخارج، لكن إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينًا، لا يكون كليًا، فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن، ومن أثبت ماهية لا في الذهن / ولا في الخارج، فتصور قوله تصورًا تامًا يكفي في العلم بفساد قوله، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة، لكن لا تكمل بذلك نفس، ولا تنجو به من عذاب، ولا تنال به سعادة؛ ولهذا قال أبوحامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء: هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم. يشيرون بالأول إلى العلوم الرياضية، وبالثاني إلى ما يقولونه في الإلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك؛ لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك، فإن الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه، وسماع ما لم يكن سمعه، إذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو أهم عنده منه، كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب.
وأيضًا، ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح، والقضايا الصحيحة الصادقة، والقياس المستقيم، فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله، لنستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك، ولهذا يقال: إنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي، وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك؛ لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل، ولم / يجد في ذلك ما هو حق، أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي، كما كان يتحرى مثل ذلك من هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره. وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا لهوتم فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع، فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع، لكن ليس هو علمًا يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس.
وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ويدعونها بأنواع الدعوات. كما هو معروف من أخبارهم، وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعة في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده. وكان الشيطان ـ بسبب الشرك والسحر ـ يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر، وكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها، ومقادير حركاتها وما بين بعضها من الاتصالات، مستعينين بذلك على ما يرونه مناسبًا لها.
/ولما كانت الأفلاك مستديرة، ولم يمكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المستقيمة والمنحنية، تكلموا في [الهندسة] لذلك ولعمارة الدنيا؛ فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير، لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور، وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك، فإن لذات النفوس أنواع، ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار، حتى يشغله ذلك عما هو أنفع له منه.
وكان مبدأ وضع [المنطق] من الهندسة، وسموه حدودًا، لحدود تلك الأشكال؛ لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول؛ وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة. والله ـ تعالى ـ يسر للمسلمين من العلم والبيان والعمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان. والحمد لله رب العالمين.
وأما [العلم الإلهي] الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج، فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج، وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن، وليس في هذا من كمال النفس شيء. وإن عرفوا واجب الوجود بخصوصه، فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان، فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره،/ وإنما يدل على أمر كلي. والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه. ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله، ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات ـ كما يزعمه ابن سينا وأمثاله، وظن أن ذلك كمال للرب، فكذلك يظنه كمالا للنفس بطريق الأولى، لا سيما إذا قال: إن النفس لا تدرك إلا الكليات، وإنما يدرك الجزئيات البدن- فهذا في غاية الجهل، وهذه الكليات التي لا تعرف بها الجزئيات الموجودة، لا كمال فيها البتة، والنفس إنما تحب معرفة الكليات، لتحيط بها بمعرفة الجزئيات، فإذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك.
الوجه الرابع: أن يقال: هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة، كما يزعمون، فما يذكرونه في العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه ليس كذلك؛ فإن تصور معني الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره، فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه، ونفس أقسامه إلى واجب وممكن، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث: هو أخص من مسمى الوجود، وليس في مجرد انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما كليا عظيما عاليا على تصور الوجود.
فإذا عرفت الأقسام فليس ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغيير والاستحالة، وليس معهم دليل أصلا يدلهم أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا، وجميع / ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك، فإنما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه، لا قدم شيء معين ولا دوام شيء معين. فالجزم أن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شيء منه، جهل محض لا مستند له، إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم.
ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، فهم لا يؤمنون لا بالله ولا بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت. وإذا قالوا: نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن المحسوس، وذلك هو الغيب، فإن هذا وإن كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال، فإن ما يثبتونه من المعقولات، إنما يعود ـ عند التحقيق ـ إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان.
والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج وهو أكمل وأعظم وجودًا مما نشهده في الدنيا. فأين هذا من هذا؟! وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل قالوا: إن الرسل قصدوا إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم.
ثم منهم من يقول: إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور. ومنهم من يقول: بل لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية.
/وأقل أتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم، وجده مما لا يرضى به أقل أتباع الرسل. وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديمًا أزليًا، وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالما آخر منه خلق، وأنه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك، علم أن غاية ما عندهم من الأحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم.
وهب أنهم لا يعلمون ما أخبرت به الرسل، فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية في هذا العالم، أزلية أبدية، لم تزل ولا تزال. فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة، وعامة [فلسفتهم الأولى] و [حكمتهم العليا] من هذا النمط، وكذلك من صنف على طريقتهم؛ كصاحب [المباحث المشرقية]، وصاحب [حكمة الإشراق]، وصاحب [دقائق الحقائق]، و[رموز الكنوز]، وصاحب [كشف الحقائق]، وصاحب [الأسرار الخفية في العلوم العقلية]، وأمثال هؤلاء، ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقًا، ولا تخلص من إشراك ضلالهم مطلقًا، بل شاركهم في كثير من ضلالهم، وشاركهم في كثير من محالهم، وتخلص من بعض وبالهم، وإن كان ـ أيضا ـ لم ينصفهم في بعض ما أصابوا، وأخطأ لعدم علمه بمرادهم أو لعدم معرفته أن ما قالوا صواب. ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا.
والمقصود هنا أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة؛ كأرسطو وأتباعه؛ فإن أولئك ليس عندهم من العلم باللّه إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه.
وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في [علم ما بعد الطبيعة] في [مقالة اللام] وغيرها، وهو آخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل، فإنه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم أجهل / من هؤلاء، ولا أبعد عن العلم بالله تعالى منهم. نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ.
وابن سينا لما عرف شيئًا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود، ونحو ذلك، وإلا فأرسطو وأتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود، ولا شيء من الأحكام التي لواجب الوجود، وإنما يذكرون [العلة الأولى] ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به.
فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح، حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض، فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده، ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل، فصار ذلك سببًا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية، ومقاصد سامية قرآنية، خرجوا بها / عن حقيقة العلم والإيمان، وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، بل يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات.
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم، كما زعموه، مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلابد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته، وعبادته تجمع محبته والذل له، فلا تكمل نفس فقط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل، مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية، فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم، ولذلك يرون هذا ساقطا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم.
فالجهمية قالوا: الإيمان مجرد معرفة الله. وهذا القول ـ وإن كان خيرًا من قولهم ـ فإنه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله. وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولواحقه، وهذا أمر / لو كان له حقيقة في الخارج، لم يكن كمالا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى. فهؤلاء الجهمية من أعظم المبتدعة، بل جعلهم غير واحد خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة، كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم. وقد كفر غير واحد من الأئمة - كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما - من يقول هذا القول. وقالوا: هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود - الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم - مؤمنين.
فقول الجهمية خير من قول هؤلاء، فإن ما ذكروه هو أصل ما تكمل به النفوس، لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين إرادتها التي هي مبدأ القوة العملية، وجعلوا الكمال في نفس العلم، وإن لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه. وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد.
والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط، وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة.
واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض، لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولا فلم يتبعوه، بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء، كان من الأشقياء في الآخرة ./ والقوم لولا الأنبياء لكانوا أعقل من غيرهم، لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وإن كفروا ببعضه، حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم، فكانوا خيرًا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم.
الوجه الخامس :أنه إن كان المطلوب بقياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة، فتلك ليس فيها ما هو واجب البقاء على حال واحدة أزلًا وأبدًا، بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر أنه من اللازم لموصوفه، فنفس الموصوف ليس واجب البقاء، فلا يكون العلم به علمًا بموجود واجب الوجود، وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح، كما بسط في موضعه، وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة. وذلك ممكن بوجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدًا، مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم، كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح، فإن القول بأن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه، أي شيء قدر فاعله، لاسيما إذا كان فاعلا باختياره، كما دلت عليه الدلائل اليقينية ـ ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين؛ كالرازي وأمثاله ـ كما بسط في موضعه.
وما يذكرون من اقتران المعلول بعلته، فإذا أريد بالعلة، ما يكون مبدعًا للمعلول، فهذا باطل بصريح العقل؛ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي / لم تفسد بالتقليد الباطل. ولما كان هذا مستقرًا في الفطر، كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء موجبا لأن يكون كل ما سواه محدثًا مسبوقًا بالعدم، وإن قدر دوام الخالقية المخلوق بعد مخلوق، فهذا لا ينافى أن يكون خالقًا لكل شيء، وما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه، بل ذلك أعظم في الكمال والجود والأفضال.
وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك ــ كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد، وحصول الشعاع عن الشمس ــ فليس هذا من باب الفاعل في شيء، بل هو من باب المشروط، والشرط قد يقارن المشروط، وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين، وإن لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء، فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة، وذلك لا ينافى حدوث كل جزء من أجزائها، بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه. وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو وأتباعه، فإنهم وإن قالوا بقدم العالم، فهم لم يثبتوا له مبدعًا، ولا علة فاعلية، بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها، لأن حركة الفلك إرادية.
وهذا القول، وهو أن الأول ليس مبدعًا للعالم، وإنما هو علة غائية للتشبه به، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديمًا بقدم علته، كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه؛ ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة / أرسطو وسائر العقلاء في ذلك، وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء، وكان قصده أن يركب مذهبًا من مذاهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب، مع كونه أزليًا قديمًا بقدمه. واتبعه على إمكان ذلك أتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم.
وزعم الرازي فيما ذكره في محصله أن القول بكون المفعول المعلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة المتقدمون الذين نقلت إلينا أقوالهم؛ كأرسطو وأمثاله. وإنما قاله ابن سينا وأمثاله. والمتكلمون إذ قالوا بقدم ما يقوم بالقديم من الصفات ونحوها، فلا يقولون: إنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة، بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم، فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب قديمًا إلا بصفاته اللازمة له، كما قد بسط في موضعه. ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله.
وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبًا، سواء قيل:إنه واجب بنفسه أو بغيره. ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديمًا واجبًا بغيره أزليا أبديًا ـ كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في [الإمكان] ـ من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه، كما بسط في موضعه. فإن هذا ليس موضع / تقرير هذا، ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي لا يفيد أمورًا كلية واجبة البقاء في الممكنات.وأما واجب الوجود ـ تبارك وتعالى ـ فالقياس لا يدل على ما يختص به، وإنما يدل على أمر مشترك كلي بينه وبين غيره، إذ كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمورًا كلية مشتركة، وتلك لا تختص بواجب الوجود ـ رب العالمين سبحانه وتعالى ـ فلم يعرفوا ببرهانهم شيئًا من الأمور التي يجب دوامها، لا من الواجب ولا من الممكنات.
وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه، لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم، فضلا عن أن يقال: إن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم، ولهذا كانت طريقة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ الاستدلال على الرب ـ تعالى ـ بذكر آياته.
وإن استعملوا في ذلك [القياس]، استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمول تستوى أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب ـ تعالى ـ لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوى أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه، فثبوته له بطريق الأولي. وما تنزه غيره عنه من النقائص، فتنزهه عنه بطريق الأولى؛ ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة / في القرآن من هذا الباب، كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد، وغير ذلك من المطالب العالية السنية، والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف، وإن كان كمالها لابد فيه من كمال علمها وقصدها جميعًا، فلابد من عبادة الله وحده، المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له.
وأما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القرآن .
وكذلك آيات الرب ـ تعالى ـ نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى، لا يوجب علمًا كليا مشتركًا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزمًا لهذا هو جهة الدليل، فكل دليل في الوجود لابد أن يكون مستلزمًا للمدلول، والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين / من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة، والقضايا الكلية هذا شأنها.
فإن القضايا الكلية إن لم تعلم معيناتها بغير التمثيل وإلا لم تعلم إلا بالتمثيل، فلابد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الأوسط، فإذا كان كليا فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من أفراد الدليل، كما إذا قيل: كل أ: ب، وكل ب: ج، فكل ج :أ، فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الألف. ومعلوم أن العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين، والباء المعين للألف المعين أقرب إلى الفطرة من هذا. وإذا قيل: تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة أو بديهة من واهب العقل. قيل: حصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل أقرب. ومعلوم أن كل ما سوى الله من الممكنات فإنه مستلزم لذات الرب تعالى. يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى، وتقدس، وإن كان مستلزمًا ـ أيضًا ـ لأمور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه.
وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين، أعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام، والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده، ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهوـ سبحانه ـ يعلم الأمور على ما هي عليه، فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها، ويعلم الكليات أنها كليات، فيلزم من وجود الخاص وجود العام المطلق، كما يلزم من وجود هذا الإنسان وجود الإنسانية والحيوانية، فكل ما / سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها، يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة، فإن الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الأعيان. فضلا عن أن يكون خالقًا لها مبدعًا.
ثم يلزم من وجود المعين وجود المطلق المطابق، فإذا تحقق الموجود الواجب، تحقق الوجود المطلق المطابق، وإذا تحقق الفاعل لكل شيء، تحقق الفاعل المطلق المطابق، وإذا تحقق القديم الأزلي، تحقق القديم المطلق المطابق، وإذا تحقق الغني عن كل شيء، تحقق الغني المطلق المطابق، وإذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق، كما ذكرنا أنه إذا تحقق هذا الإنسان وهذا الحيوان تحقق الإنسان المطلق المطابق، والحيوان المطلق المطابق، لكن المطلق لا يكون مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فإذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس العين.
كذلك إذا علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقًا وغنيا مطلقا، لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره، وذلك هو مدلول آياته تعالى. فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها. وكل ما سواه دليل على عينه وآية له، فإنه ملزوم لعينه وكل ملزوم فإنه دليل على ملزوم، ويمتنع تحقق شيء من الممكنات إلا مع تحقق عينه، فكلها لازمة لنفسه دليل عليه آية له، ودلالتها بطريق قياسهم على الأمر المطلق الكلي الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ببرهانهم ما يختص بالرب تعالى.
/
فكان [قياس الأولى] يفيده أمرًا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر، ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك، ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده، بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده، كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج. فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، وهو في الواجب أكمل وأفضل من فضل هذا البياض على هذا البياض، لكن هذا التفاضل في الأسماء المشككة لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركًا كليًا فلابد في الأسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن.
وذلك هو مورد [التقسيم]؛ تقسيم الكلي إلى جزئياته إذا قيل: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام، ثم كون / وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليًا مشتركًا بينهما، وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق، كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير، وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه، وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته.
والناس تنازعوا في هذا الباب. فقالت طائقة ـ كأبي العباس الناشى من شيوخ المعتزلة الذين كانوا أسبق من أبي علي ـ: هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق. وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة بالعكس:هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق. وقال جماهير الطوائف: هي حقيقة فيهما. وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة الأشعرية والكرَّامية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة؛ لكن كثيرًا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بأنها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك، وينازع في بعضها لشبه نفاة الجميع. والقول فيما نفاه نظير القول فيما أثبته؛ ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين، ونفى الجميع يمنع أن يكون موجودًا، وقد علم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، وغني وفقير، ومفعول وغير مفعول، وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب، ووجود المحدث يستلزم وجود القديم، ووجود الفقير يستلزم وجود الغني، ووجود المفعول يستلزم وجود / غير المفعول. وحينئذ فبين الوجودين أمر مشترك، والواجب يختص بما يتميز به، فكذلك القول في الجميع.
والأسماء المشككة هي متواطئة باعتبار القدر المشترك، ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم، بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله، فالمشككة قسم من المتواطئة العامة، وقسيم المتواطئة الخاصة. وإذا كان كذلك فلابد من إثبات قدر مشترك كلي، وهو مسمى المتواطئة العامة، وذلك لا يكون مطلقًا إلا في الذهن، وهذا مدلول قياسهم البرهاني. ولابد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة، وذلك هو مدلول الأقيسة البرهانية القرآنية وهي قياس الأولى، ولابد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه، وذلك مدلول آياته ـ سبحانه ـ التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه، لا يدل على هذه قياس لا برهاني ولا غير برهاني .
فتبين بذلك أن قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها، فضلا عن أن يقال: لا تعلم المطالب إلا به، وهذا باب واسع، لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة، وهي قولهم :إن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم.
/ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا؛ وقصروا العلوم على طريق ضيقة لا تحصل إلا مطلوبًا لا طائل فيه حتى زعموا أن علم الله ـ تعالى ـ وعلم أنبيائه وأوليائه، إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الأوسط، كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه، وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم أنبيائه من سلفهم الذين هم من أجهل الناس برب العالمين وأنبيائه وكتبه. فابن سينا لما تميز عن أولئك، بمزيد علم وعقل، سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك. وصار سالكو هذه الطريق، وإن كانوا أعلم من سلفهم وأكمل، فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل؛ إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان بواجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال، وهم من أتباع فرعون وأمثاله؛ ولهذا تجدهم لموسي ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين.
قال الله تعالى:
/وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمروذ بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال، ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله ـ صلوات الله عليهم ـ في مواضع.
وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة، وآل فرعون أئمة لأهل النار، قال تعالى:
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ }
والمقصود أن متأخريهم ـ الذين هم أعلم منهم ـ جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني، وكذلك علم أنبيائه. وقد بسطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضوع.
والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم: إنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه، وإذا كان هذا السلب باطلا في علم آحاد الناس، كان بطلانه / أولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم ملائكته وأنبيائه، صلوات الله عليهم أجمعين.
|